لطالما كان الفن وسيلة للتعبير عن المشاعر والافكار، ومع مرور الوقت وتطور العلم والطب أصبح مؤخراً وسيلة معتمدة لعلاج عدد كبير من الأمراض. المزيد من المعلومات عن هذا العلاج تجدونه في هذه المقابلة التي أجريناها مع الفنانة التشكيلية البحرينية دلال السندي، المتخصصة بالعلاج بالفن.
ما هو العلاج بالفن؟
يرتكز العلاج بالفن على الايمان بأن الفن تعبير مهم، ولغة مفهومة وموجودة عند الانسان بالفطرة. تتخزن كل خبرة في حياتنا في عقلنا الباطن على هيئة صور ذهنية، بعضها يدفن فيه، وينتج عن ذلك اضطرابات نفسية وسلوكية. يقوم العلاج بالفن بإخراج هذه التصورات المطبوعة في العقل الباطن الى المعالج، الذي يقوم بدوره بإعطاء الشخص نشاطات فنية هادفة قد تنير الطريق لرموز يمكن للمعالج بالفن تحليلها مع الفرد. خلال الفترة العلاجية يتم التوصل الى علاج الحالة، وهذا لا يقتصر على الرسم فقط، بل يترافق مع فترة من الحوار بين المعالج والفرد. يرتكز العلاج النفسي بالفن التشكيلي على التعبير غير اللفظي (الفني) بالرسم أو النحت والعلم النفسي الكلينيكي الذي يتم من خلاله التعرف على الرموز والذكريات المرئية التعبيرية، والخبرات التي قد تكون منسية. كما تكمن مهمة المعالج في التعرف على هذه الخبرات، وإيجاد وسائل لإحداث تغيير إيجابي لها وفهمها مما يؤدي الى التعبير عن نفسية الفرد الصادقة، ومن خلال ذلك يبدأ العلاج النفسي بالفن التشكيلي.
”وجهك ليس أنت”، عنوان أحد المعارض التي قدمتها، فمن هي دلال السندي؟
بدأت فكرة المعرض وعنوانه من فكرة “الأنا” المستوحاة من الأنانية، فحاولت من خلال أعمالي أن أتعمق في فكرة “عدم الأنا أو قتلها!” في مجتمعنا المهووس بالوجوه. فعكست فكرة الملامح والتعابير في حركات جسدية مرسومة بقلم الحبر الناشف الأحمر، ليرمز الى الطبقة الموجودة تحت الجلد: فكلنا سواسية.
ما الذي قادك إلى القلم والريشة وصولا إلى احتراف الرسم، وتحويله إلى أسلوب علاج؟
ولد الرسم معي منذ الصغر، تشجيع الأهل والمدرسين عند سن المراهقة جعلني أدمن الفن والرسم وأتعمق فيه. فمن خلال دراستي الجامعية في بريطانيا وجدت نفسي أبحث عن تخصص أعمق وأردت أن تكون مهنتي هادفة لمساعدة الناس بما أعطاني الله من قوة وعلم. ففوجئت بالتعرف على العلاج النفسي بالفن التشكيلي في بريطانيا، والتحقت بجامعة Hertfordshire لأتخصص بماجستير العلاج النفسي بالفن التشكيلي. ومن هناك بدأ مشواري في هذا المجال المعطاء الجميل.
حدثينا أكثر عن مركز العلاج بالفن في البحرين.
بدأ مركز العلاج بالفن التشكيلي عام 2012 تحت رعاية الشيخة سبيكة آل خليفة، حفظها الله، ومساعدة وزارة التنمية وتمكين في مجمع الحاضنات “ريادات”. ويشمل مركز العلاج بالفن التشكيلي عددا من الأنشطة العلاجية وأهمها الجلسات العلاجية الفردية التي أقوم بها مع كل فئات المجتمع. والحمدلله تعالى مع مرور السنين تطور المركز ليشمل ورشات عمل تعليمية وعلاجية في المركز وخارجه. وحاليا انتقل المركز الى الرفاع الشرقي منذ عام 2016 من بعد انطلاقه من مجمع ريادات.
كيف تقيّمين تجربتك على مدى السنوات؟
الحمدلله تعالى التجارب لها طابعها الخاص في العلاج النفسي.. وتجربتي المتواضعة في هذا المجال تقيّم من خلال صحة واستفادة الأفراد ونموهم وصحتهم النفسية، وإن استفادوا من العلاج بالفن ومن جهودهم ايضا. استطاع هذا المجال أن يفتح أبواب الابداع والسلام النفسي لبعض الأفراد. وأعتقد أن تجربتي في هذا المجال نتج عنها التفاؤل والنمو في حياة الأفراد وحياتي أيضا.
ما العبر التي استخلصتها من خلال التواصل المباشر مع المرضى؟
يختلف كل فرد عن غيره من ناحية تجاربه الشخصية وتأثيرها على نفسيته. فلكل منّا أفكاره وقوته القيّمة، التي قد تصبح مصدر قوة عندما نعبر عنها ونفهمها. والعبرة التي استخلصتها من عملي هي أن كل انسان فيه من الحب والقوة ما لا يستوعبه قلبه وذهنه، ومن الحزن ما لا يعبّر عنه بالكلمات، فهنا تكون الالوان والفن وسيلة لتفريغ التعابير والآلام الدفينة في وعاء إبداعي وفني لا تحده قوانين أو حدود.
ما هي الحالات أو الأمراض التي يشملها العلاج بالفن؟
يشمل العلاج بالفن التشكيلي تقنيات نفسية قد تناسب العديد من المشاكل النفسية، ومنها: الاكتئاب، والتوتر، والمشاكل الادراكية والنمو المتأخر، وكذلك الحالات النفسية الناتجة عن الخبرات والمصاعب، والتوحد ومتلازمة داون، والحالات النفسية لمرضى السرطان والامراض المزمنة والجلطات وإصابات الدماغ والمشاكل المتعلقة بالادراك والتآزر الحسي البصري وتنمية المهارات الدقيقة. كما أنه فعال في علاج مشاكل الاطفال النفسية والسلوكية. ويمكن الاستفادة من العلاج بالفن التشكيلي للأفراد الراغبين في تحسين نفسيتهم والتنفيس عن ضغوط الحياة، فيقدم العلاج النفسي بالفن التشكيلي فرصة للفرد للتعرف على كيانه الابداعي وعلى الرموز التي تنعكس في التصوير والابداع الفني كما يعطي العلاج بالفن منفذا لأفكار ومشاعر الفرد بشكل صريح وغير مغلّف.
كيف تطورت أساليب العلاج بالفن؟
تطورت أساليب الفن التشكيلي عالميا خلال السنين، فأصبح العلاج بالفن التشكيلي من أساسيات العلاج النفسي في بريطانيا وأمريكا وكندا وأستراليا وفي العالم العربي ايضا. فهنالك طرق عدة لاستخدام الفن في الجلسات من ناحية العلاج التأملي بالفن والعلاج بالفن الحر، والعلاج النفسي بالفن السلوكي والادراكي وغيرها من أساليب تهدف لتطوير الذات والنفسية السيكولوجية للفرد.
ما هي مراحل العلاج النفسي بالرسم؟ وكم قد يطول؟
من خلال تجربتي استطيع أن أقول إن العلاج بالفن التشكيلي يختلف من حالة الى اخرى. أما فيما يتعلق بالأساسيات العلاجية فهي الجلسات الأولى التقييمية، التي تشمل بعض النشاطات الهادفة التي تفيد في تدوين الأهداف العلاجية القصيرة والطويلة الأمد. ومن خلال تجربتي وجدت أن الفترة العلاجية بشكل عام تستغرق بين الـ10 إلى 15 جلسة، وهذا يعتمد على الحالة التي نعمل معها للوصول للأهداف العلاجية.
كيف تصفين التفاعل بينك، كمعالجة بالفن، وبين الأطباء؟
في بداية عملي كمعالجة نفسية بالفن التشكيلي، التحقت للعمل في مستشفى التأهيل في مدينة الملك فهد الطبية في الرياض، فكنا فريق طبي متكامل يهدف لعلاج المرضى الجسدي والنفسي. وكمعالجين بالفن التشكيلي، كنا نتواصل يومياً مع الاطباء والمعالجين لمعرفة سلوك المريض ومشاكله وقدراته الجسدية والعقلية. التواصل والعمل مع الاطباء والاطباء النفسيين أتاح لنا الفرصة للتعرف على المريض من جانب آخر، مما غذى الاهداف العلاجية والاهداف التي كنا نتعاون عليها معا للوصول الى صحة المريض في المستشفى. أما في البحرين، فقد قدمت محاضرات وندوات تعريفية وتعليمية وعلاجية عن أهمية العلاج النفسي بالفن التشكيلي في كلية الطب بمستشفى السليمانية والجامعة الطبية الايرلندية وغيرها من المؤسسات المتعلقة بعلاج أمراض السرطان، وذوي الاحتياجات الخاصة، وغيرها. أجد التعاون مع الأطباء ممتازاً من ناحية إيمانهم بالعلاج النفسي والعلاج بالفن التشكيلي وأهميته في مجتمعنا، مما ينمي طرق العلاج لتحسين حياة الفرد النفسية والجسدية.
كيف يختلف العلاج النفسي بالرسم عن العلاج النفسي بالكلام؟
يعتبر العلاج بالفن التشكيلي فرعاً من فروع العلاج النفسي العام الذي بدأ به سيغموند فرويد، رائد العلاج النفسي في العالم. ففي مذكراته العلاجية ذكر استخدامه لخامات الفن والرسم مع مرضاه ليتعرف على أحلامهم وصورهم الذهنيه الدفينة في جلساته العلاجية. الفرق الوحيد بين العلاج النفسي بالكلام والعلاج النفسي بالفن التشكيلي هو أن الأخير يعتمد على التعابير والرموز الفنية واللفظية أيضا. فالعمل الفني في الجلسة العلاجية يشمل تعابير اللاوعي والمشاعر الدفينة التي من الصعب أن تعبّر عنه الكلمات. كما يقدم العلاج بالفن التشكيلي طريقة سلسة لبداية الجلسات، فلا يشعر الفرد بأنه ملزم على الكلام ولا على جماليات الفن بل فقط بالتعبير الصريح الخالي من القيود. الرسم مبدئيا يريح النفس ويسهل بداية كل جلسة علاجية.
عندما تنظرين إلى اللوحات أو الأعمال التي نفذها مرضاك، ماذا يكون انطباعك؟
كل عمل يختلف بمعانيه ومشاعره عن الآخر، حتى لو كان للفرد نفس. السؤال بنفسه محيّر لانني كلما قرأته تخيلت لوحه مختلفه، فالفن له لغة مفهومة إنسانية. فكل عمل فني عميق بذاته، معبّر بصدقه، ومحرّر من أية قيود. تشمل هذه الرموز الفنية ذكريات ومشاعر عميقة، تبعث في قلبي الفرح والحزن والتفاؤل..
ما موقع العلاج النفسي بالفن في العالم العربي حالياً؟
انتشر العلاج بالفن التشكيلي وزاد اهتمام الناس فيه خلال السنوات الـ3 الماضية. فهو موجود الآن في الامارات، والمملكة العربية السعودية، ولبنان، والكويت وقريبا في قطر وفي سوريا والكثير من الملاجئ في مختلف أنحاء العالم.
ما هي أكثر المشاكل النفسية التي كشفت عنها رسوم مرضاك؟
من أغلب الرموز التي تعبّر في الجلسات التقييمية الاولى في العلاج النفسي بالفن التشكيلي هي عدم الثقة بالنفس والاحباط السيكولوجي والاحساس بالحزن أو الاكتئاب والوحدة.
ما هي نسبة نجاح العلاج بالفن؟ وما مدى سرعته مقارنة بالعلاج النفسي العادي؟
لا أستطيع أن أحكم أو أن أقارن بين أساليب العلاج النفسي، فكل اسلوب له من يتفاعل معه ويتقبّله ويستفيد منه. فان كان الفرد لا يتقبل الرسم أو التعبير الفني فالعلاج بالفن لن يكون مفيدا له، والعكس صحيح. أما عن الفترة العلاجية، برأيي هذه الفترة لا تحدد فهي تختلف حسب الافراد ومشاكلهم وخلفياتهم ووعيهم، فالبعض يكتفي بـ5 جلسات والبعض الآخر قد يصل إلى 20 جلسة علاجية. تتعلق الفترة الزمنية إذن بالفرد والمعالج للوصول الى الاهداف العلاجية.
إلى أي مدى يلقى العلاج بالفن صدى إيجابيا في منطقتنا العربية؟
نظرا لمجتمعنا المتقدم في العلوم الصحية والعلاجية وجدت أن العلاج بالفن التشكيلي يأخذ دورا مهماً في تسهيل عملية العلاج لكونه ملتصق بالتعابير الفنية والرسم. فالاقبال على العلاج بالفن التشكيلي أصبح ينمو وينطلق مع مرور السنوات، لكونه علاجا متصلا بممارسة فنية إبداعية حرّة، حتى لو لم يكن الفرد فنانا أو متقنا للرسم. يؤمن المعالج بالفن التشكيلي بأن الرسم والتعبير التصويري موجود بالفطرة عند كل انسان. فمثلاً الأطفال وحبهم للتعبير بالرسم قبل تعلم اللغة يثبت أن التعبير الفني موجود في كل انسان كما هو نافع للنفسية والوعي الذاتي، كما يفرّغ الشحنات التي نمر بها ان كنا أطفالاً أو كباراً.
لو خُيِّرتِ بين الدول العربية لنقل تجربة مركز العلاج بالفن إليها، أي دولة تختارين بالدرجة الأولى؟ لماذا؟
هدفي الأول هو خدمة أبناء وبنات بلدي البحرين، والحمدلله بقدرته الكريمة استطعت، بما املك من قدرات وعلم متواضع، أن أبدأ مشوار العلاج بالفن التشكيلي في البحرين. ولكني أيضا أطمح وأتأمل أن ينتشر هذا العلاج الفطري، العلاج بالفن التشكيلي في كل أنحاء العالم العربي.
تحمل كل لوحة قصة، ما هي قصة آخر لوحة رسمتها بيدك؟
الفن يحمل بمعانيه وخطوطه ذكريات ومشاعر وأفكار عميقة تتصل بالفنان ولكن سيشعر بها كل من ينظر اليها. آخر رسمة رسمتها كان وحيها الفكري من أختي الحبيبة حين خاطبتني قائلة: “أتمنى أن أجد احساس السعادة في رسمة تهديني إياها”. ومن خلال بحثي ألهمت من ضحكة كبار السن في المناطق الفقيرة، فوجدت في وجوههم من الحكمة والالم ما لم يستوعبه عقلي من عناء. تجاعيد وجوههم وابتسامتهم الصريحة الجميلة الصبورة ألهمتني بشكل قوي. ومن آخر أعمالي بورتريه لسيدة في عمر الـ88 من الهند، وجهها الضحوك مع جمال تجاعيدها التي تعبر عن مشوارها في هذه الحياة جذبني لدراسته بقلمي. وكما قال أبو فراس الحمداني: “ما العمر ما طالت به الدهور.. العمر ما تمّ به السرور”.